تاجوج و المحلّق....قصة الحب الابدية في قرية عنـاتر بين سفوح التاكا ورباه وعلى ضفة نهر سيتيت الشرقية وفي ادغال واحراش السنط والسدر والأندراب واللالوب واشجار البان التي تغنى بها الشعراء في اعتدال القوام وبين قبائل الضباينة وبني عامر والشكرية والأحباش عاشت قبيلة الحمران ردحاً من الزمن هادئة البال مرتاحة بمقرها الحديث بعد ان فارقت أرض وطنها في ميناء سواكن ملتقى البر والبحر والسحاب والجبال وكانت قبيلة الحمران لا تخشى مطامع جيرانها حتى الأحباش لانها قد أعدت لهم رباط الخيل وصمدت لنزالهم إلى اليوم بشجاعة فتيانها وشيوخها الذين اقتنوا الخيول لصد كل غاز وقد ذكر المؤلف السوداني ود ضيف الله واوضح قيمة الخيل عند الحمران . في أواسط القرن الثامن عشر للميلاد
تقريباً أنجبت قبيلة الحمران عدة شبان برزّوا كغيرهم في ضروب البسالة والشهامة وأختصهم الله بحب الطبيعة وجمالها فأوحت إليهم بالشعر فنظموا أعمالهم وما أوتوه من مفاخرة . فمن بين هؤلاء الشبان الذين سمعنا بشعرهم على بن محمد شقيق تاجوج والمحلّق بن علي زوجها وغيرهما من شباب وشيوخ .
ونشأت في القبيلة أيضاً فتاة بزت أترابها في الجمال والجاه , ناهيك بمن تنشأ في بيت العز والترف ونعيم الحياة وسعدها : لها والد هو عميد القوم وأخ نال نصيبه من الشجاعة ووالدة من ام بني عامراوية فتانة القوام عريضة بيت الملك إذ يمتد ملك أهلها من أقصى نهر سيتيت حتى سواحل البحر الاحمر .
وما هذه الفتاة إلا تاجوج بنت الشيخ محمد بن علي بن محلق بن محمد بن علي التي دوت أخبارها في أكثر الافاق وتناقل الناس حديث جمالها وسارت الركبان تتغنى بما أختصت به من أدب وذكاء , وتسامر الفتيان بشهي حديثها ولذيذ خطابها . فتقدم المحلق إلى والدته يطلب منها أن تخطبها له من خاله . فأمتثلت الأم وطلبت من أخيها ابنته " تاجوج " لأبنها المحلق , فرضي الخال ولكن بعد أن طلب مهراً غالياً من أبن أخيه فأستعان المحلق بوالده وأوجده لأصهاره , وكل عاشق لا يعوقه غلاء المهر وتم القِِِران بين الزغاريد والدفوف والرقص . عاشت تاجوج تحت سقف الزوجية يرفرف فوقهما ملاك الحب المتبادل وكانا أسعد زوجين عرفتهما أرض القبيلة . ولم يكن المحلق معصوماً من الاتصال ببعض الفتيات حبيبات الى نفسه قبل قرانه بتاجوج كدأب أغلب
الفتيان في البوادي والمدن وخاصة أولئك الذين يتبعون الكلأ بمواشيهم , فمن ذلك ما بلغنا من رواة ثقات حادثة جرت لهذين الزوجين كانت فاتحة الشر بينهما .ولا بأس من أن نذكرها هنا بحذافيرها لأن حياتهم لم تهنأ بعدها.
قيل أن المحلق خرج من خبائه في ليلة شديدة المطر وقد اكتنفها الرعد والبرق وحملق ببصره ليرى اتجاه المطر والأنحاء التي ستحظى بأغزرها . فكان وميض البرق على سهول قوز رجب . ثم هبت عليه رياح الأمطار من تلك الديار . فتذكر اياماً لذيذة قضاها مع صديقة له نائية الخباء بعيدة الديار ماله من يبعث اليه بشوقه وذكرياته الحلوة وأحلامه اللذيذة إلا لمعان البرق وقصف الرعد وهطول المطر وهبوب الريح وجالت في مخيلته هواجس الاحبة فملكت عليه مشاعره وأنسته موقفه الذي فيه فأنشد :
بَشِِدْ واركبْ على الياخُذ لُه عَنّه فِريوْةَ الرّيفْ مَعَ الّتوبْ المِتِنّى
يَتِبْ عجلانْ قِبُل ما نْلمْ رَسَنّا بيوتْ نُورَة أمْ شِليْخ وين من أَهَلْنَا
فلاح له إيماض البرق ثانية من نفس الجهة فودّ لو أستطاع أن يرب جمله البشاري السريف الذي يثب قبل ان تتمكن أفخاذ المحلق من السيطرة عليه , فقال يصف حالته تلك :
بشد وأركب على ودّ البشارى فريق الريف من المحزم تجارى
يتبْ عجلان قبُل ما لم حكارى بلِيدْ نُورَة أم شِلِْيخ اللّيِلة طاري
ثم قال :
بَشِدْ واركبْ على أب زرداَ مدانَةْ مِتِل وَدّ الأرايلْ في البطانَةْ
نَِضوهو من كريكر اليوم ترانا نساري الليل على الخدّيرْ فلانة
وبينما هو ساهم في تأملاته وأسفاره الوجدانية ناسياً كل ما حوله وينشد ذلك بصوته المرتفع , إذ سمعت تاجوج تلك النفثة الشعرية التي اوحت بها ذكرى الصبا إلى روح الشاعر الحساسة فخرجت من الخباء لترى ما أعترى هذا العاشق المتيم الولهان الذي حرك البرق ولمعانه هذه الذكريات , فأنبعثت الأشعار من صميم فؤاده . فوجدت نفسها أمام بعلها وجهاً لوجه فأخذت تحرق الأرم من الغيظ والغيرة , وأنقلبت أسارير ذلك الوجه النضير إلى الكآبة والعبوس , وكاد يقضي عليها من الحسرة والأسى لولا بقية تعلة وتصبّر . وما أهاج ثورة غضبها إلا الخوف والجزع على من وهبت قلبها له وأحبت الحياة لأجله , فلن تسمح لقلبه أن يميل مع الهوى أو ترضى أن تنزعه من إحدى بنات حواء فتنغّص عليها عيشها وتجعل حياتها كلها نكداً وبؤسا. فقالت له : أعدْ الابيات التي
قلتها الأن . فأجابها , قلــت :
أمكْ دَبَاسَة وفُوقْ الفُروعْ وأنتِ بتشبهي المُقْد الفُروعْ
سخلة مصنة الطيب ما فيك ضلوع ليلة فَرِدْ يوم تازن سبوع
فقالت له : أعدْ الأبيات التي قلتها الأن . فأجابها قلت :
أمك دباسة وفوق الشَدر وانتِ بتشبهي المقد الكجَرْ
سخلة مصنة الطيب مافيك فِقَرْ ليلة فَِردْ يوم تازنْ شهرْ
فقالت : ما هكذا قلت . فأجابها , قلت :
أمك دباسة وفوق القنا وانتِ بتشبهي المقد اللي انحنى
سخلة مصنة الطيب ما فيك جَنى ليلة فرد يوم تازن سنة
فقالت
بغضب : والله ما هكذا قلت . نسيبتك تعيد لي ما قلت ... فحار المسكين في أمره , وعلم أن كل ثناء سكبه لأستدرار عطفها لم يجد نفعاً , ولم يخفف من غضبها وشدة أنفعالها فخضع أمام الحلف العظيم وجلاله , وهو قسم لا يمكنه أن يتريث في تنفيذه والتغاضي عنه والاستهتار به . فقال له وأنفه راغم قلت " بشد واكرب .. الخ ..." ولكن قال ذلك في صوت كسير يشوبه الخجل والحرج الشديد . فأنفجرت تاجوج صاخبة باكية , وذهبت الى منزل أبيها لا تلوى على شئ تشكو حليلها الذي لم يخص لها وحدها وده وحبه بل ما زال شرك معا في قلبه صويحباته أيام طيشة ونزقه. ولكن كم كان ابوها الشيخ محمد حكيماً ويعلم من طبائع الجنس اللطيف ما ليس بالقليل . فردها الى بعلها بعد أن أقنعها
بنبالة زوجها وطهره وعفافه فعلمت تاجوج أن عطف أبيها وحنانه شملا أبن أخته . فقالت : لن أعود الى منزل المحلق مالم يقصرشعَره عليَ دون أن يشرك معي خليلة أخرى . فرضي المحلق بالشرط مسرورا , وعاهدها على ذلك ثم تدفقت قريحته وتمكن منه الحب والكلف بها , فملاً البوادي كلها بمنظوم شعره يتغزل في تاجوج ويتعز بحبه لها . ومما قاله فيها متغزلاً :
فصّْ الماظ مركب فوق مجمّرْ
فصّْ عينيك يا أم خشماً مجمّرْ
فوقْ بستان تحت سالك مضمّرْ
جليدك طاقة الكيدي المنمّرْ
وقا ل ايضاً :
ما بِتْجيكْ تَمشِي وتخبْ
وما دنقرت حلبت شخبْ
وريقاتك الفوق الصلبْ
جَرّحَنّي داخل القلبْ
***
هذا هو المحلق الذي نظم عقود اللآلئ الشعرية وتوج بها رأس تاجوج الحمرانية وحلى بها عنقها وجيدها , أضحى صريع غرامها ومريض هيامها كمن سبقوه من العشاق الذين أودى بهم شعرهم وغناؤهم الذي كانوا يتوددون به لحبيباتهم , ويتوجهون به على سائر أترابهن لكي يحظوا ببعض الجزء الجميل منهن وبالتشجيع من الأقران ولكي ينال العاشق وعشيقته لشهرة بين القبائل التي يرى بعضها أن الشعر يسئ إلى السمعة كما حدث لصاحبنا المحلق , فقد التقى ذات يوم بأحد أبناء عمومته الذي يقال له النور بن اللمم الذي عنف المحلق أشد التعنيف على إشهار حبه لتاجوج التي ذكرها في شعره حتى صار غناء الفرد والجماعة في البوادي والحضر وأصبحت هي مضغة لأفواه تلوكها الألسن وعرف أسمها ووصفها القاصي والداني. فاجابه المحلق " والله يا أبن اللمم لو رأيتها لعذرتني والتمست لي المبررات , ولو كنت بعلها مكاني لما فارقتها لحظة , ولبقيت أسير جحيلها". فقال النور " أنا لم أرها , ولكن يجمل بمن في منزلتك أن
يخفف من غرامه وأشعاره ". فأجابه المحلق " أنني حاولت ذلك ولكنني لم أطق , فتعال معي إلى الخباء كي أريك إياها في غفلة منها ". وكانت هذه الدعوة كافية لأن تظهر اللوثة التي أصابت المحلق من جنون حبه وأنه أصبح لا يعرف ما يصح وما لا يصح , لقد اضحى مجنونا ما في ذلك شك . فسارا معاً . ثم ثقب المحلق الخباء خلفه واوقف النور أبن اللمم , ودخل داره ظناً منه أن تاجوج حقيقة غافلة لما ثقب خباءها . فأخذ قسطه من الراحة , ثم طلب منها أن تقف أمامه وترقص . فتعجبت من طلبه ولكنها صبرت وتجلدت وقالت سمعاً وطاعة ولكني أشترط عليك أن تجيب طلبي بعد تنفيذي لرغبتك . وأن تقسم بالطلاق مقدماً على تنفيذه . فرضي المحلق ظناً منه أنا مهما طلبت فلن تتعدى مطالبها مراحات الإبل والبقر . فلما ضمنت منه تنفيذ طلبها رضيت بما أئتمر عليه مع النور فطلب منها أن ترقص أمامه على ضوء النار إذ كان الوقت ليلاً ورجاها أن تتمايل في رقصتها يمنة ويسرة . ووتثّثنى وتتوسد شعرها . وأن تشبك أصابع
يديها ثم تردهما إلى الخلف عن طريق رأسها . وكان هو يغني لها عدة أغاني ثم قال لها : كيف ترقصين إذا مت . فأجابت رغبته دون أي أمتعاض أو تذمر وتمنطقت بثيابها كما تفعل النساء في ساعات النواح , وفعلت أشياء أخرى أعتادت النساء في ذلك العصر الإتيان بها في العويل والبكاء .. ولما أنتهت من رقصاتها على أصوات العرضة والنقارة كان الفرح قد تملكه والهيام اسكره فشكرها وطلب منها أن تذكر مطالبها . فنظرت إليه طويلاً وجسمها يرتجف وقالت له بصوت فيه صرامة وألم وجراح : طلبي واحد وهو الطلاق والفراق الأبدي . فصعق حين سمع طلبها وأنزعج أبن اللمم وولى هارباً من وراء الخباء بعد أن دمر عامراً حلالاً . وشتت قلوباً وأجساماً طالما عاشت في حياة هنيئة . وأخذت تاجوج ما كان بيدها من دثارها وخرجت الى الى بيت أبيها والمحلق
يتوسل إليها بكل عزيز لديها , ويتشبث بأطراف ثوبها راجياً مستجدياً بدون جدوى وخجل النور عما بدر منه وتجنب المجالس والاجتماعات وقيل إنه رحل من القرية إلى قرية أخرى بعيدة عن قرية آل المحلق...