القمر... مستعمرة الأرض الأولى ؟ القمر...
هل يصبح مستعمرة
الأرض الأولى
بعد نحو أربعة عقود على نزول رائد الفضاء نيل أرمسترونغ على سطح
القمر، توشك الولايات المتحدة على اتخاذ أول خطوة نحو «استعمار» القمر التابع
للأرض.
من المقرر أن تُطلق
الوكالة الوطنية للطيران والفضاء الأميركية (ناسا) قريباً مهمة آلية تهدف إلى
تحديد أفضل موقع لأول مستعمرة للأرض خارج العالم. وهذه أمنية كتّاب الخيال
العلمي وأصحاب المخيّلة الواسعة طوال قرون.
لا ترتبط الرحلة بالسير على
القمر أو لعب الغولف أو التنقل في عربة قيمتها عشرة ملايين دولار، كما فعل
رواد «أبولو»، بل بتوضيب أمتعتك والانتقال مع أولادك للعيش على سطح القمر.
يقول كريغ تولاي، مدير مشروع
Lunar Reconnaissance Orbiter (مكوك استكشاف القمر)، أحد جزئي هذه المهمة: «سنؤمن لـ{ناسا» ما تحتاجه
كي تأخذ البشر إلى القمر وتبقيهم هناك فترة طويلة».
من المتوقع أن يقدّم المكوك
نفسه خرائط مساحيّة مفصّلة للقمر، فضلاً عن صور لجوف فوهات محجوبة دوماً في
القطبين الشمالي والجنوبي. ويأمل العلماء أن يعثروا داخل الفوهات على مياه
مجمّدة بقيت مخفيّة طوال مليارات السنين.
لن تتوقف المهمة عند هذا
الحد. بالاعتماد على مركبة فضائية أخرى تدعى
Lunar Crater Observation and Sensing Satellite
(قمر اصطناعي للاستشعار ومراقبة الفوهات
القمرية)، تخطط «ناسا» لإحداث ثقب في إحدى الفوهات لرؤية ما سينبثق منها.
تُطلَق المركبتان
الفضائيتان معاً بواسطة صاروخ يتألف من قسمين. وبعد نحو أربعة أشهر، تستخدم
الوكالة القسم الثاني من الصاروخ كمدق لإحداث فوهة عرضها نحو 20 متراً وعمقها
أربعة أمتار تقريباً، وإحداث غمامة في الفضاء ترتفع نحو 10 أمتار في الفضاء
وتشكل مشهداً خلاّباً لمحبي الفضاء الذي يملكون مقاريب كبيرة. يذكر توني
كولابريت، عالم في مشروع القمر الاصطناعي: «سيكون المشهد رائعاً جداً. سيبدو
الاصطدام واضحاً لكل مَن يراقب القمر من الأرض».
تنطلق المهمة، التي بلغت
كلفتها 579 مليون دولار، من كايب كانافيرال بولاية فلوريدا. فهل يبني العلماء
ذلك المركز على سطح القمر في أحد الأيام؟
وضع الخبراء خطة لإنشاء
مستعمرة على سطح القمر نتيجة رؤية بوش الابن لاستكشاف الفضاء عام 2004. فقد
اقترحت الرؤية إعادة الإنسان إلى القمر بحلول عام 2020. كذلك دعت إلى استخدام
القمر كنقطة انطلاق لتحقيق حلم أكبر: إرسال رواد فضاء إلى المريخ.
لكن الرئيس باراك أوباما لم
يصدّق على رؤية بوش. فقد أثار قرار الإدارة الأخير بمراجعة مشروع رحلة الإنسان
المستقبلية إلى الفضاء القلق بين العاملين في هذا الوسط. حتى أن بعض المراقبين
تساءل عمّا إذا كان أوباما يمهّد لتحجيم رؤية بوش واقتراح بديل أقل طموحاً، مثل
المهمة التي دفعت بـ{ناسا» إلى التخلي عن القمر في سبعينات القرن العشرين
والاستعاضة عنه ببرنامج المكوك الفضائي.
أوضح القائم بأعمال مدير
«ناسا» كريستوفر سكوليز في شهادته الشهر الماضي أمام لجنة العلوم الفرعية
التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي، أنه يدرك تماماً الخطر المحدق بخطط طويلة
الأمد تمهّد لاستعمار الإنسان عوالم أخرى، مشيراً إلى أن «الإدارة ستقدّم
طلباً منقحاً لنشاطات الاستكشاف، إذا بدا ذلك ضرورياً». وأضاف: «في هذه
الأثناء، ستواصل «ناسا»، كما هو مقرر، ناشطاتها الاستكشافية الراهنة، بما
فيها... الأنظمة القمرية».
بعد ساعة من إطلاقه، ينفصل
مكوك الاستطلاع (وزنه 1814 كيلوغراماً) عن قمر استشعار الفوهة والأجزاء
الصاروخية من المركبة الفضائية. وبعد خمسة أيام تقريباً من السفر في الفضاء،
يستخدم نحو 12 جهاز دفع مرشد ليستقر في مداره على بعد نحو 48 كيلومتراً عن سطح
القمر، الذي يشكل لغزاً أكبر مما يظنه كثر.
باستثناء المنطقة
الاستوائية التي استكشفتها رحلات «أبولو»، «نفتقر إلى صور عالية الجودة لسائر
مناطق القمر. حتى أننا نملك صوراً أفضل لسطح المريخ»، على حد تعبير تولاي.
وتتفاقم المشكلة في صور القطبين، لا سيما أن الخرائط الخاصة بهما غير دقيقة،
رغم أن «ناسا» تخطط لإقامة مركز في أحدهما.
في القطبين مناطق لا تغيب
عنها الشمس وأخرى لا تفارقها الظلمة. ومن الممكن استخدام الأولى كمصدر للطاقة
الشمسية يستفيد المستعمرون منه، أما الثانية فقد تخفي مخزوناً من الجليد، الذي
بقي محتجزاً طوال مليارات السنين.
لن يشكل الجليد مصدر مياه
فحسب، فمن خلال عملية التحليل الكهربائي (electrolysis)،
يمكن تجزئته إلى هيدروجين وأوكسيجين، واستخدام الأخير للتنفس، فضلاً عن تصنيع
وقود صواريخ للرحلات القادمة من الأرض أو المتوجهة إليها. لكن لا يتوافر دليل
قاطع على وجود المياه على هذا الكوكب. يذكر تولاي أن احتمال العثور على المياه
على سطح القمر طالما كان «موضوع جدال حامٍ ومحتدم».
تشير الأدلة المتوافرة إلى
كلا الاحتمالين. لعل رحلة
Lunar Prospector (استكشاف
القمر) عام 1988 قدّمت الدليل الأكثر إقناعاً في هذا المجال. فقد رصدت مخزونات
كبيرة من الهيدروجين في الفوهات الغائرة، حيث لا تتخطى درجة الحرارة الـ167
تحت الصفر. رغم ذلك، فشلت الجهود الراهنة، التي بذلتها الأقمار الاصطناعية
الدولية في فلك القمر، في العثور على المياه.
تهدف المهمة الراهنة إلى
تقديم الإجابة عن هذا السؤال ورفع الغطاء عن آخر ألغاز القمر. يحمل مكوك
الاستطلاع القمري سبع معدات، من بينها مجموعة كاميرات يمكنها التقاط تفاصيل لا
يتعدى عرضها الثلاثة والأربعين سنتمتراً، أي ما يعادل حجم حصاة صغيرة.
يُرسل جهاز ليزر لقياس
الارتفاع أشعة إلى سطح القمر لرسم صورة مفصلة عنه، من الجبال إلى الجروف
والأودية. أما الآلة التي تحمل الاسم «كرايتر»، فتقيس الإشعاعات في هذه
البيئة. تعلم {ناسا» منذ زمن بعيد أن التعرّض لأشعة كونية أو شمسية يشكل خطراً
يهدد حياة كل مَن يعيش على سطح القمر. لذلك يعلن كولاي: «إذا قررنا البقاء على
سطح القمر فترة طويلة، يجب أن نبتكر طريقة لحماية أنفسنا».
تتوافر لمكوك استكشاف القمر
فرصة كبيرة للعثور على المياه إذا وُجدت هناك. لكن، ألا تُضطر أحياناً إلى
التنقيب عن أمر ما لتعثر عليه؟ هنا يأتي دور القمر الاطصناعي للاستشعار
ومراقبة الفوهات القمرية.
تفجير الفوهة
ينفصل المكوك عن القمر
الاصطناعي والصاروخ بعيد الانطلاق. عندئذٍ تدخل مجموعة تفجير الفوهة مداراً
دائرياً حول الأرض، معدّةً ضربة قوية إلى القمر في الفضاء، يُسددها الجزء
الثاني من صاروخ أطلس خمسة «سينتور» (يكون آنذاك خالياً من الوقود). وبعد
إطلاقه حول الأرض بقوة يزداد زخماً ويبلغ أعلى زاوية ممكنة لاصطدامه بالقمر،
ثم يرتطم الجزء هذا الذي يوازي حجم سيارة رياضية ذات دفع رباعي بالفوهة
المستهدفة صباح الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) بسرعة 5600 ميل في الساعة.
ويكسّر أي جليد على السطح، مسبباً غمامة ضخمة من الغبار.
بعد مرور أربع دقائق على
الاصطدام، يحلّق القمر الاصطناعي المرافق وسط الحطام ليقيس التراكيب
الكيماوية. لا شك في أن أي مياه تخرج من الفوهة ستتبخّر سريعاً، لكن هذا القمر
يحمل بين معداته التسع مجموعة من كاميرات الضوء المرئي والأشعة ما تحت
البنفسجية، فضلاً عن جهاز لقياس الطيف مصمم لرصد أي مواد كيماوية متحللة.
بعد عبوره الغمامة، يسقط
القمر الاصطناعي على سطح القمر على بعد مسافة قصيرة. وفي الفضاء على ارتفاع
كيلومترات يروح مكوك الاستطلاع يراقب تفاصيل ما يحدث. أما هنا على الأرض،
فيركّز آلاف الهواة مقاريبهم على سطح القمر.
لم تقرر «ناسا» أي فوهة
ستفجر بعد. يجب أن تكون ضحلة كفاية كي تندفع المواد المفجّرة خارجة من فتحتها
ليتمكن القمر الاصطناعي من العبور وسطها لالتقاط القياسات الضرورية، على حد
قول كولابريت.
لن تختار «ناسا» هدفاً إلا
قبل 30 يوماً من تاريخ الاصطدام، حين تتلقى قياسات التقطها مكوك الاستطلاع
وتعتمد عليها لتحديد خيارها. قد يستغرق تحليل بيانات جمعها القمر الاصطناعي
أشهراً، لكن إذا اكتشف العلماء دليلاً قاطعاً على وجود ما في هذا العالم الذي
يُعتبر ميتاً، فلن يخفي أحد هذا التطور المهم. يذكر كولابريت: «إذا عثرنا على
كمية كبيرة من المياه المركّزة، لن نتردد لحظة في إخبار العالم عن الاكتشاف
البالغ الأهمية»