مر السودان وقبل أن يكتمل في صورته الحالية - التي نراها عليه اليوم - بمراحل وحقب تاريخية عديدة … ومن المعروف أن تكوين السودان السياسي، والثقافي، والحضاري، بدأ من شماله قبل عدة قرون ، واتجه بعدها المد الحضاري إلى جنوبه.
وقد شهد العالم مدى رقي وتقدم حضارات بلاد السودان ، والتي قامت متلازمة ومتجانسة مع حضارات أخرى كانت مجاورة لها ، (كالحضارة المصرية مثلاً) وأدت في نهاية الأمر إلى تكوين السودان بشكله الحالي. ومازال الأبحاث والدراسات مستمرة ، والعلماء يعملون في شتى المجالات والميادين يجمعون الأدلة والبراهين التي يستطيعون من خلالها الكشف عن كثير مما زال غامضاً عن حياة وحضارة ساكني هذه المنطقة في العصور القديمة.
وتعتبر مملكة نبتة أو كوش (أطلقت كلمة كوش على العهد النبتي ثم المروي) هي أولى الممالك في تاريخ السودان ، وقد قامت عند أسفل الشلال الرابع ، على مقربة من كريمة الحالية ، وبالقرب من جبل البركل.(1) وقد امتازت بأهمية موقعها الذي يشرف على طرق القوافل التجارية والمسافرة ، مما جعلها تستقبل أعداداً كبيرة من السكان الوافدين. (ومما زاد من أهميتها كذلك قدوم عدد من كهنة آمون إليها من مصر حتى أصبح لها نشاطها السياسي والثقافي ثم مكانة قيادية مطلقة لعبادة آمون).(2)
ومملكة نبتة وباعتبارها أولى الممالك السودانية هي التي أخرجت السودان من تحت السيطرة المصرية ، يقول الأستاذ محمد عوض (وببروز ملكة نبتة يكون السودان قد خرج من عهد السيطرة المصرية التي امتدت طويلاً ودخل لأول مرة في استقلال طويل يسمى الدور النبتي).(1)
ومازالت أثار حضارة العهد النبتي ماثلة أمامنا ، وقد استطاع علماء الآثار كشف النقاب عن مدن ، ومعابد ، ومخلفاتها ، والتي كانت ترقد في باطن أرضها ، وشهد العالم عظمة تلك الفترة وثرائها الحضاري، والتي تميزت بأنها من اعظم فترات تاريخ السودان بل تاريخ أفريقيا، إذ استطاع خلالها ملوك النوبة من السيطرة على مصر وإخضاعها تحت حكمهم ، (حيث استطاع كشتا وهو أول ملوك النوبة أن يمد سلطانه على مصر العليا حتى إقليم الأقصر وسمى نفسه بكبير القطرين).(2)
وخلف كشتا على العرش ، ولده بعانخي العظيم فاتح مصر ، وأشهر ملوك نبتة ، وأكثرهم مهارة في الحروب. (واستطاع إخضاع مصر كلها وأصبح ملكاً على حوض النيل من النيل الأزرق حتى الدلتا).(3) وتولى الملك بعد بعانخي أخوه شبكا ، الذي نقل عاصمته للأقصر ؛ لضمان السيطرة على مصر. ولما قويت شوكته وسيطرته أرسل ابنه ترهاقا لمحاربة الآشوريين ، الذين كانوا يهددون بلاد سوريا وفلسطين ، إلا انهم تمكنوا من هزيمة ترهاقا. وكان شبتاكا خليفة شبكة بعيداً عن بلاد النوبة فانتهز ترهاقا ذلك ، واغتصب الملك ، وقاد جيشه شمالاً وحارب أخوه وآسره وقتله ، واستمر يحكم السودان ومصر فترة ثلاثة عشر سنة بلا منازع. ثم فكر ترهاقا في ضم بلاد سوريا وفلسطين ، فكتب لامراءها يحثهم على الثورة ضد آشور ، مما اغضب ملكهم فزحف بجيش عظيم نحو مصر ، وهزم ترهاقا واستولى على الوجه البحري ، وترك مصر العليا وبلاد النوبة لترهاقا الذي توفى فيها ، فخلفه ابنه تاتوت آمون ، الذي حاول أن يعيد السيطرة على مصر السفلى ، إلا انه انهزم أمام جيوش الآشوريين وفقد مصر كلها ، وبعدها لم يحاول ملوك نبتة استعادة مصر فكان ذلك نهاية حكمهم لمصر.
وبعد استيلاء آشور على مصر وانفصال مملكة نبتة (كوش) عن مصر انقطعت العلاقات بين بلاد النوبة ومصر ولما كانت منطقة نبتة فقيرة في النواحي الزراعية كانت تعتمد في تجارتها على ما تحصل عليه من الجنوب وتستبدله بالبضائع المصرية فلم يكن في مقدورها أن تتقدم وتزدهر بعد أن انقطعت علاقتها بمصر فبدأ العهد النبتي في الاضمحلال والزوال. ولكن (بينما كانت نبتة تضمحل هكذا كانت مدينة أخرى تنمو وتزدهر تلك كانت مدينة مروي التي قامت على سهل زراعي خصيب ونمت فيها التجارة الداخلية التي اكتسبت أهمية كبيرة.)(1)
وهكذا قامت مروي على الضفة الشرقية للنيل في شمال شندي الحالية ، وقد بلغت مروي من الشهرة ما نافست بها نبتة ، كمركز تجاري وثقافي ، وسياسي هام.
وقد اعتبر المؤرخون العهد المروي ، من اعظم الحقب التاريخية في تاريخ السودان ، فقد كانت على اتصال بحضارات مصر ، والحضارة الرومانية، وخلافهما. كما عاصرت مروي حكم البطالسة ، والفرس ، والرومان.
وقد كان لموقع مروي المميز وخصوبة أراضيها ، أثره الكبير في استقرارها، ونماءها ، وتطورها ، كما ساعد سكانها على احتراف الزراعة. واشتهرت مروي كذلك بوفرة المعادن في صخورها الرملية ، (وقد مكنتهم معرفتهم بالحديد واستخراجه من صنع العديد من الأسلحة والآلات الزراعية مثل الآلات التي كانوا يعزقون بها الأرض وأخري للحفر ولقطع الحشائش، كما صنعوا الفؤوس ورؤوس الحراب وكانت هذه الصناعات قد وصلت مستوى رفيعاً حتى إذا ما قارناها بالوقت الحاضر)(1)
(ولقد كان يحكم دولة مروي عدد من الملوك والملكات اللائى كان يطلق عليهن لقب [الكنداكات])(2) حتى جاء القرن الثالث الميلادي ، والذي بدأت فيه المملكة المروية في الاضمحلال التدريجي ، ذاك الاضمحلال الذي رده المؤرخون إلى غزو بعض العناصر لها. يقول الأستاذ محمد عوض: (وقد كان لغزو سود جبال النوبة والبجة من الشرق ودخول ما عرفوا بالنباط من الشمال الغربي دور كبير في اختلال الميزان الاقتصادي وساء موقفها السياسي مما عجل من تدهورها وانحلالها.)(3) فقد أخذت هذه القبائل تثير الاضطراب ، وتتسبب في إقامة المشاكل ، ودخلت في مناوشات مع مملكة اكسوم ، مما دفع ملكها عيزانا إلى إعداد جيش كبير غزا به مملكة مروي ، ودخل الجيشان في معركة طاحنة استطاع فيها الاكسوميون ؛ من التغلب عليهم وتدمير مدينتهم ، بمبانيها ومصانعها ، ومزارعها مما أدى إلى سقوطها.
وهكذا طويت صفحة من صفحات تاريخ السودان ، وانقسمت بعدها البلاد إلى ممالك صغيرة وهي:
مملكة نوباديا: ويطلق عليها أيضاً نوباطيا(1) ومعناها بلاد النوبة ويضم حوض النيل من أسوان حتى الشلال الثالث (وعاصمتها في بادئ الأمر في (بلانة) ثم انتقلت إلى بقراش (فرس) والتي كانت تقع على الحدود بين مصر والسودان حتى تاريخ غرقها وكانت هذه أولى الممالك التي اعتنقت المسيحية لقربها من مصر وللسهولة إليها)(2) (وسميت هذه المملكة كذلك بمملكة المريس أو النوبة السفلى)(3).
مملكة المقرة: وكانت أراضيها تمتد جنوب المملكة السابقة ؛ أي من الشلال الثالث إلى مكان يُعرف بالأبواب جنوب الشلال الخامس ، وكانت عاصمتها في دنقلا العجوز.
مملكة علوة: وحدودها من الأبواب ، أو مروي القديمة ، بالقرب من كبوشية ، جنوب الشلال الخامس إلى جنوب الخرطوم وعاصمتها سوبا.
(وفي النصف الأول من القرن السابع الميلادي الموافق الهجري اتحدت مملكتا نوباديا والمقرة ليصيرا مملكة واحدة عرفت باسم مملكة النوبة)(4) وقد ظل الأمر على هذا الحال حتى عام 723هـ الموافق 1323 ميلادية ، وفي هذا العام زالت مملكة النوبة ، وقامت مكانها مملكة إسلامية ؛ لتكَّون هي ومملكة علوة التي سبقتها في الإسلام بحوالي 277 عاماً هجرياً - دولتين إسلاميتين متجاورتين - عرفت بالأسماء الآتية:
النوبة السفلى: وتضم مملكة نوباتيا.
النوبة العليا: وتضم مملكتي المقرة وعلوه(1) وقد ازدهرت هاتان المملكتان، وامتد نفوذهما إلى مناطق واسعة ؛ فضمت مملكة المقرة إلى نفوذها قبائل دارفور ، وكردفان كما ضمت علوة إلى نفوذها السيطرة على القبائل الواقعة جنوب الجزيرة، وتلك التي تقطن على حدود أثيوبيا بمفهومها الحالي الجديد.(2)
(1) دكتور محمد عوض محمد السودان الشمالي
(2) متوكل أحمد أمين ، النوبة التراث والانسان عبر القرون
(1) دكتور محمد عوض ، السودان الشمالي
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه.
(1) دكتور محمد عوض محمد السودان الشمالي ص
(1) متوكل أحمد أمين، النوبة التراث والإنسان عبر القرون.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) محمد عوض محمد ، السودان الشمالي
(1) د.ج. فانتيني ، تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث
(2) متوكل أحمد أمين النوبة التراث والانسان عبر القرون
(3) د. حسن الشيخ الفاتح قريب الله ، السودان دار الهجرتين الاولى والثانية للصحابة
(4) المصدر السابق نفسه.
(1) متوكل النوبة التراث والانسان عبر القرون ص
(2) د. حسن الشيخ الفاتح قريب الله السودان دار الهجرتين ص