الحديثُ القائِلُ:
" .. لو كان لابن آدم واديانِ من مالٍ لابتغى ثالِثاً"
هل يُثبِت قُرآنية و نسْخاً ؟
هذا النصًّ الذي استفاضَت بِهِ الروايات دليلٌ على :
جوازِ نسْخِ التلاوةِ مع بقاءِ الحُكْمِ شرْعاً
وإن كان لا يُجْزَمُ بِكوْنِهِ قرآناً نُسِخ.
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا وَلاَ يَمْلاَ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"[1] قال ابن عباس : فَلا أدْرِي أمن القُرانِ هُوَ ، أم لا ؟ قال : وسمعتُ ابنَ الزُّبيْرِ يقول ذلك على المنبر[2].(صحيح)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ قَتَادَةَ ، سَمِعْتُ أَنَسًا ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا ، وَلَوْ كَانَ ثَانِيًا لابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا ، وَلا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ ، وَيَتُوبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ تَابَ قَالَ أَنَسٌ : فَلا أَدْرِي أَشَيْءٌ أُنْزِلَ عَلَيْهِ أَوْ قَوْلٌ كَانَ يَقُولُهُ [3] (إسناده صحيح)
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ "سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا ملآن مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلاَ يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ" (صحيح)
عن بريدة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة : لو أن لابن آدم واديا من ذهب لابتغى إليه ثانيا ، و لو أعطي ثانيا لابتغى إليه ثالثا ، و لا يملأ جوف ابن آدم .. " الحديث " (صحيح).[4]
أبو الأسود الدؤلي -رحمه الله - : قال : بُعِث أبو مُوسى إلى قُرَّاءِ أهلِ البصرَةِ ، فدخل عليه ثلاثُمائة رجل قد قَرَءوا القرآن ، فقال : أَنتم خِيارُ أهلِ البصْرَةِ ، وقُرَّاؤهُمْ، فَاتلوهُ ، ولا يَطُولَنَّ عليكم الأمَدُ ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ ، كما قَستْ قُلُوبُ مَنْ كانَ قَبْلَكُم ، وإنا كُنَّا نَقْرأُ سورة نشبِّهُها في الطُّولِ والشِّدَّةِ ببراءة ، فَأُنْسِيتُهَا ، غيرَ أني قد حَفِظْتُ منها :« لو كان لابنِ آدمَ واديانِ من مالٍ لا بْتَغَى واديا ثالثا ، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابن آدمَ إلا الترابُ»، وكُنَّا نقرأ سورة كُنَّا نُشَبِّهُها بإحدَى المُسبِّحاتِ فأُنْسِيتُها ، غير أني حَفِظتُ منها : {يا أيُّها الذين آمنوا ، لم تقولونَ ما لا تفعلون} فَتُكْتبُ شَهادَة في أعناقكم فتُسَأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ القيامة. (صحيح)
وعن سعد بن أبى وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى اليهما الثالث ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.( إسناده صحيح)[6]
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن". قال: فقرأ: " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ " قال: فقرأ فيها: ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال، فأعطيه (4) لسأل ثانيًا، ولو سأل ثانيًا فأعطيه (5) لسأل ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. وإن ذلك الدين عند الله الحنيفية، غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيرا فلن يكفره. ورواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي، عن شعبة، به (1) وقال: حسن صحيح.[7]
استفاضَت الرواياتُ لهذا الأثر عن جمْعٍ من الصحابةِ :
1-عطاء عن ابن عباس
2-قتادة عن أنس
3-سهل بن سعد عن ابن الزيير
4-عبدالله بن بريدة عن أبيه
5-أبوالأسود الدؤلي عن أبي موسى الاشعري
6-زر بن حبيش، عن أبي بن كعب
هذا الحديثٌ استفاضت الرواياتُ في صِحّتِهِ وثبُتَ عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم ... لا خِلاف في ذلِك .. هو حديثٌ مُثْبِتٌ للنسْخِ ... لا للقرآنِيّة و نجْزِمُ بٍذلِك ... ورُبما صِحُّ كوْنُهُ قرْآناً ورُفِعَ نسْخاً أو إنْساءاً و لا نجْزِمُ بٍذلِك... ورُبّما كان حديثاً قُدُسِيّاً و لا نجْزِمُ بٍذلِك ... وإْثْباتُ النسْخُ يكفيهِ حديثُ آحادٍ .. بيْنما القرآنِيّةُ لا تثْبُتُ إلا بالتواتُرِ ...
هل نجِزم أنهً مِنَ القرآنِ المنسوخِ؟!!
البعْضُ قالَ أنه كان قرآنا ونسخت تلاوته لما نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فاستمرت تلاوتها فكانت ناسخة لتلاوة ذلك.... والصواب اننا لا نجْزم بذلك ...
ولا نعْلَمُ كيْفَ يجْزِمُ من يجْزِم بِكوْنِهِ كانَ قُرْآنِاً ... والقرآن لا يثْبُتُ بخبرِ الآحاد .. كيف ذلِكَ وإن كان من صحابةِ رسولِ اللهِ من توقّّفوا في الجزْمِ بقُرْآنِيّتِهِ..!!
قال ابن عباس : فَلا أدْرِي أمن القُرانِ هُوَ ، أم لا ؟ قال : وسمعتُ ابنَ الزُّبيْرِ يقول ذلك على المنبر.
قَالَ أَنَسٌ : فَلا أَدْرِي أَشَيْءٌ أُنْزِلَ عَلَيْهِ أَوْ قَوْلٌ كَانَ يَقُولُهُ
ويجْدُر بِنا أن نُبيِّن أمور
1- أنّه قد استفاضت الرِّوايات الصحيحةُ على نسْخِ تِلاوةٍ آياتٍ كان مِنْها"لوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا .." وإنْكارُ ذلِكَ لا مُصوِّغ له .. وإلا فالنسْخُ مُثْبَتٌ بكِتابِ الله " ما ننسَخ من آيةٍ أو نُنْسِها نأتِ بِخيْرٍ منها أو مِثْلِها"
2- أنّهُ ليْسَ لأحدٍ أن يجزِمَ أنّ هذا النصّ عيْنُهُ , بلفْظِهِ وحرْفِهِ كان قُرْآناً ونُسِخ ... ولا يُقْطَعُ بِذلِكَ على اللهِ وإنّما الصحابِيُّ يرْويِهِ مِن ذاكِرَتِهِ .. وإلا فالنصوص اختلفت بين رواتِه .. فأيُّ هذه النصوصِ هو المعنِيُّ ؟!! .
3- كذلِكَ لا يُمْكِن إغفالُ الفارِق بيْن نص القرآنِ الكريم , وبيْن هذا النصّ ...فشتّان بيْنهما ... مما يعْني أن الرواة يرْوونه كُلّ مِن ذاكِرَتِهِ على حسْب ما يتذكّر ... وهذا لا يُقطَع بِأنه قرآنا ..
وإلا فأي الرواياتِ التالية كان النصُّ القُرآني قبلَ نسْخِهِ؟!!
رواية ابن عبّاس لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا [8]...
رواية ابن عبّاس "لو أن لابن آدم واديا مالا لأحب أن له إليه مثله"[9]
رواية عائِشة: لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابتغى وَادِيًا ثَالِثًا[10]
رواية أبي موسى : لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لالْتَمَسَ إِلَيْهَا وَادِيًا ثَالِثًا[11]
رواية السهيلي : لو أن لابن آدم واديا من ذهب لابتغى له ثانيا
رواية سعْد بن وقاص : لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى اليهما الثالث
رواية أنسٍ : لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ مَالٍ لتمنى مثله ثم تمنى مثله حتى يتمنى أودية
رواية أنسٍ : لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا ، وَلَوْ كَانَ ثَانِيًا لابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا .
رواية زيد بن أرقم : لوكانلابنآدمواديانمنذهب وفضة لابتغى إليهما آخر[12]
رواية جابر : لو كان لابن آدم واد من نخل لتمنى مثله ثم تمنى مثله حتى يتمنى أودية
القوْلُ في هذا الحديثِ:
1- "لوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا " هو حديث صحّ نقْلُهُ عن رسولِ الله صلى اللهُ عليْهِ وسلّم , وقد يكونُ حديثاً قُدُسِيّاً ... و ربّما كانَ مِن منْسوخ التلاوةِ الذي بقِيَ حكمه.
2- وهذا الحديث دليل على ثبوتِ نسْخِ التلاوة .. بدليل أن من توقف في الجزم بقرآنيتها من الصحابة لم يستنكر وجود نسْخٍ للآيات القرآنية .. في حين أخبرلا صحابةٌ آخرون أنها كانت من الوحي أو المنسوخ تلاوته .. ولذا فلنا أن نقول أنه ثبُتَ مِنْ استِفاضةِ هذه الرواياتِ إقْرارُ الصحابةِ على منسوخِ التلاوةِ .. ولا نجْزِمُ بقُرْآنِيّتِهِ , كيفَ وقد شكّ ابن عبّاسَ وأنسٍ رضي الله عنهما في قُرْآنِيّتِهِ...؟!! فالقوْل ما قال ابن عبدالبر رِحِمَهُ الله "لا يقطع بصحته عن الله، ولا يحكم به اليوم أحد"[13] ...
وهكذا فهو حديثٌ مُثْبِتٌ للنسْخِ و نجْزِمُ بٍذلِك ... ورُبما صِحُّ كوْنُهُ قرْآناً ورُفِعَ نسْخاً أو إنْساءاً ولا نجْزِمُ بٍذلِك... ورُبّما كان حديثاً قُدُسِيّاً ولا نجْزِمُ بٍذلِك ... وإْثْباتُ النسْخُ يكفيهِ حديثُ آحادٍ .. بيْنما القرآنِيّةُ لا تثْبُتُ إلا بالتواتُرِ ...
________________________________________
[1] أخرجه البخاري 11/253 باب ما يتقى من فتنة المال
[2] صحيح البخاري 11/253
[3] مسند ابي يعلى 6/28 , قال حسين سليم أسد : إسناده صحيح
[4] قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 6 / 967 :أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " ( 2 / 419 ) و البزار ( 4 / 244 / 3634 ) من طريقين عن عبد العزيز بن مسلم : حدثنا صبيح أبو العلاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : فذكره . قلت : و هذا إسناد جيد ، رجاله عند البزار كلهم رجال البخاري غير صبيح أبي العلاء ، و قد وثقه ابن حبان ، ذكره في " ثقات التابعين "
[5] رواه مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع وأبو يعلى ومدار أسانيدهم على مجالد بن سعيد وهو ضعيف.
[6] رواه الطبراني في الصغير والاوسط ورجالهما رجال الصحيح غير حامد بن يحيى البلخى وهو ثقة.
[7] تفسير ابن كثير 8/455.
[8] صحيح البخاري
[9] صحيح البخاري
[10] رواه مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع وأبو يعلى ومدار أسانيدهم على مجالد بن سعيد وهو ضعيف.
[11] ضعيف , رواه مسدد وفي سنده علي بن زيد بن جدعان.
[12] رواه مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وأبو يعلى الموصلي بسند صحيح.
[13] ابن عبدالبر في التمهيد 4/274.