دينج زرفــنا الدمع ســـخيا وجفت مآقينا ..
فهامت عقولنا والحزن اليوم قد عم البلاد
**********
دينج.. شجر الأبنوس فروعـــــه خضراء ..
يظهر للعيان مبتهجا وجوفه يعمه السواد
************
دينج لســـت شاعرا لست ناثرا ولكن ..
عند النائبات عنوة ينسكب المــــداد
********
دينج لست هازيا ولكن لفني حزنا
كما يلــف ثكـــالى الترابي اليوم حداد ..
*******
دينج أين ابو دلامة ؟ وأين قبرك يا علي بين القبور ؟؟
دينج أوعدوهم بقصر في الجنان
ولهم في الدنيا .. جوار ولهم فيها قصور
أين بولاد وأين الدبابون بل أين سيف العبور ..
لكم في الآخرة غلمان..وسندس وحور
ولهم في الدنيا أواني كسرى وعبق البخور
***********
دينج مللت صبرا وصمدت دهرا
ودخلت يا منقو في الحياة فصلا ..
***********
دينج فات الأوان ولا يجدي اليوم الكلام ..
دينج ..تلاشت آمالنا وهرمنا ننشد السلام
**********
واهمون بفصلك أن يطيب لنا المقام
وكردفاننا جنوبها يعمه اليوم الظلام ..
**********
دينج خرجت من وطن إلي وطن ..
هل كنت مختارا ؟؟ هل كنت ########ا كلا ..
بل ساموك قهرا فركبت صعبا ..
وحملوك على أن تختار الخروج بلا إياب
وداعا وإلي اللقاء يوم الحساب ..
وهنا القصة الكاملة بمناسبة هذه الخواطر ...............
كتب الأستاذ حسن أبراهيم حسين أبن الأم الرؤم هذة القصة ؟؟؟
دينج
موسم الهجرة للمدينة يبدأ عندما تنقرض ذبابة التسي تسي بعد أن دفنت بيضها لحفظ النوع من الإنقراض تحت الصعيد الهش بفعل الرمال المخلوطة مع الطين وروث البقر ... وهو موسم يتحرر فيه المجوك ( 1) من سجن الواكات(2) إلي حيث المروج الواسعة علي مد البصر لا يحدها إلا زئير أسد أو عواء ذئب .
دينج حزم متاعه في "القجانج"(3) وهو من صنع يدي زوجته "نامكير" ربما أو الزوجة التي ورثها عن أبيه بعد وفاته " الشول" أو تلك التي ترملت بعد وفاة أخيه فورثها ايضا " الروب" .
جائنا دينج وفي لسانه عقدة ولكنا وبصفاء طفولة عقولنا كنا نفصح عما يعني وهو يخاطبنا فيناديني " أتن" وينادي إخوتي حسين والزين باسم واحد وهو " دين" ..جاء المدينة ليعمل في فترة الصيف . وتتعدد وسائل وسبل كسب العيش لأمثاله فهو من دينكا " النبقاية " منطقة جنوب قردود أمردمي ضاحية مدينة تلودي.
جاء بعد أن ودع زوجاته وأبنائه وقد قطع علي نفسه أن يحقق حلمه وحلم أهله ..ثور أصفر علي جنباته بياض مبعثر ( منيل) .
تسلق دينج شجرة الهجليج العتيقة و التي لم يجرأ أحدا منا يوما في تسلقها إذ نتفيأ بظلها صيفا ونقتنص لالوبها طمرا عند الرشاش نعم تسلقها بمهارة متفاديا غرز شوكها وفي يده فأس صغير . وكنت أتأمل ماذا يريد إذ لم تحل عقدة لسانه بعد كي يفصح بمبتغاه . وفي لحظات قفل متدحرجا وفي يده عصا محدودبة وقد تخلص بما علق بها من أغصان وأوراق .
وبمهارة خلق من الغصن عصاة محدودبة باطنها أملس وفي نهاياتها نتوءات سرعان ما عرفت أنها عصا توضع في الكتف لحمل "جوز الماء" .
ولكن دينج لم يستفد من العصا بل لم يكن في حاجة إليها إذ تولي رعي ابقارنا فوجد ضالته في تدليلها وهو في متعة ويحرق روثها بعد تجفيفه فينبعث منه دخان لازع يطرد الناموس الذي يتقاطر قرب مغيب الشمس ويتخلل شعر رؤسنا فنشارك بهائمنا ذاك الدخان كما المستجير بالرمضاء من النار .
دينج يتولى حلبها وربطها وفكها وكل ما من شأنه راحتها .
لقد إتفق مع الوالد علي الأجر الشهري بكذا قرشا شهريا ...
دينج لا يعرف الشهور لا رجب لا قصير لا رمضان. لا أيلول لا حزيران فكيف يحفظ حقه ويعرف إستحقاق أجره
كنت ألاحظ دينج حينما يصحى من نومه كل صباح أول ما يفعله أن يأخذ قشة ويهذبها ويغرسها بمكان معين داخل القطية المخصصة له .. لم أعط الأمر إنتباه وحسبته شئ من طقوس أو كجور ..
مرت ثلاث أشهر ودخل الرابع وارتفع صوت ابجندي وبدأت السحب تخفف عنا لفحة حر الصيف إيذانا ببداية موسم الأمطار .. عندها جلس دينج ذات مساء وبسط علي الصعيد قطعة القماش وهي إزاره الوحيد الذي يغطي ما تحت السرة وبقي عار كما ولدته أمه ثم أخرج كمية من عيدان القش الصلبة التي يخزنها وبدأ يوزعها إلي مجموعات كل مجموعة تضم عشر عودا ، ويتمتم "توك، روك، دياك، اقوان، دتم، درو ، دبيت ... حتى عشرا عندها أدركت أنه التقويم الذي ينتهجه كي لا يضيع حقه .. اثار إعجابي تلكم الطريقة البدائية وتلك الفطرة التي تنم علي المواظبة . لم ينس يوما واحدا لم يغرس فيه قشة ذلك اليوم ... وكانت ديباجة تقويمه في علو بحيث لن تصل إليها أيادينا الهبيشة وتنالها عبثا ..
جاء الرشاش ونبتت الشوقارة وقرر الوالد هذا العام أن نخرف بالصعيد وحرمنا من المرحال واكتفينا ببضع بقرات حلوب لم يكتف بذلك بل قرر إلهائنا بزراعة النجاض(4) بدلا عن الرعي في مروج قيزان الغرة . وكانت تلكم أول تجربة لنا بخريف تلودي ..
دينج بارع في حراثة الأرض علي الطريقة الصعيدية المحراث رأسه الحديدي عبارة عن شكل رباعي أقرب إلي المربع وعوده قصير ذو مقبض محدودب . كم عانيت وأنا أمسك محراثي محاولا عبثا مجاراة دينج إذ لم أعتد الركوع علي ركبتي والزحف عليها في أرض طينية قد تنبعث من تحتها عقرب أو أبودفين .
دينج تولي أمر الزراعة بجانب البقيرات الحلوب لم يتضجر لم يشتكي بل كان مستمتعا بمداعبتنا له سعيدا بيننا فأصبح فردا من أسرتنا .
دينج غير كسوته إلي فرملة وسروال بدل اللاوي الذي كان يغطي نصف جسده من الكتف إلي الركبة فقط والذي لن يصمد إذا ما هبت ريح ولو خفيفة فتنكشف كل عوراته ولم يكن حينها آبها والكسوة الجديدة هي إهداء من الوالد له مقابل نشاطه وإخلاصه . اغرورقت عيناه وهو يرتدي ملابسه الجديدة وجلس علي الأرض وأخذ حفنة من التراب ثم تفها وعرفنا أن ذلك هو قسم الولاء والإخلاص.
تعلمنا من دينج كيف نأكل السمك ونسلم من عثرة عضيم الحوت في الحلق . وتعلمنا منه كيف نغرس السنارة ونصداد "أم كورو" من البركة بدل صيد الحلف وجداد الوادي وبفضله اصبحت رائحة السمك شهية لنا بينما يكون يوم نكد للوالدة التي لا تطيق رائحة الحوت فتضرب علينا حجرا من أواني الأكل والشرب .
ولكن دينج استطاع وبمهارة أن يغنينا عن أواني البيت نذهب إلي حيث قطية البقيرات ونطمر ما اصطدنا من سمك تحت رمضاء روث البقر المحروق ويتم الشواء ثم يدخل النجاض وينتزع شئ من ورق أم أباط(5) العريض وهي سفرتنا للإستمتاع بالسمك المشوي علي الملة .
بدأت بواكير خيرات الدرت بنضوج النجاض وكثرة الذباب لدرجة أنك لا تستطيع أن تمشي في الشارع دون أن تحمل غصنا لهشه من علي كتفك أو ظهرك نسبة لعلو الرطوبة . ..
حينما يشتد مطر الليل يخرج دينج خلسة ثم يعود محملا بقناديل الذرة الشامية ويطمرها كما يطمر الشمك دون تعريتها مما اكتست به حبيبات القناديل من أوراق . تغمرنا المتعة ونحن نحتسي الشاي شرفة بعد كل صف من صفوف حبيبات الذرة الشامية المتراصة بعناية علي القندول ...
كان يوما لا زال محفورا في ذاكرتي ولن أنساه حينما كنا بالنجاض البعيدة نستمتع بالعقيق(القصب) الحلو .. أسمع نداء دينج بين سيقان القصب (أتن..أتن .. وهي متلاحقة بصوت عال .. فجئت مهرولا ..فإذا به يشير ألي عش عصفور يغير لونه إلي أحمر قان في موسم الخريف وهو موسم التزاوج والتبييض . دخل العصفور للعش ليطعم صغاره من حبات الذرة وكم كنت متشوقا أن أملك عصفورا بهذه الألوان البهية . فمد يده ليهجم علي العصفور في عشه ويقتنصه ولم يدري أنه كان في سباق مع قانص آخر يقشعر له البدن ..
نفض دينج يده وفي راحته رايت حمرة الدم بدل العصفور فرفعت رأسي لأجد أنه ثعبان ( البرل ) الغير سام ولكن عوضه الله بقوة أسنانه ... عندها أنتقمت لدينج وقررت هد العمارة وذلك بكسر القصبة ليهوي القندول وعش العصفور والبرل فلم أهتم بالعصفور بقدر إهتمامي للنيل من البرل الذي إنقطع إلي نصفين حينما سكبته بالساطور .
أما دينج قد طفق يمص في اصبعة ويبسق باستمرار كنت أحسب أنه واهما أن هنالك سم فطمئنته بأنه ليس من الثعابين السامة .
شاب وجه دينج حزنا عميقا وشئ من خوف وقد اشمئز من فعلتي بدلا أن يشكرني وتمتم كثيرا فعرفت فيما بعد أنهم يقدسون هذا النوع من الثعابين وظهورها في موسم الدرت نذير خير ..
بدا الحصاد ومللنا ملاح المفروكة في الغداء وكنت بكل جرأة أفتح كل الصواني متفاديا البامية المفروكة ويخيب أملي فهي بديلة ملوخية الرشاش .
يأخذنا دينج إلي غابة حشائش وأحراش أطراف تلودي غابة (أمجر) لنصطاد جراد السيسبان السمين فنشويه ونستمع بحلو طعمه ولا ندرك وقتها أنه غني بالبروتينات .
أما الضرا عامر بأخبار مزارع القطن وجلب عمال الحصاد . الهم الموسمي ..
فتحت المدرسة فلبسنا الدمورية الجديدة ولبس ذوي" الرقشة الدبلان ".. دينج يتأمل دايما في كراساتنا وكيف نقرأ ونكتب بل كيف نصلي ..
عدت ذات يوما من المدرسة ووجدت دينج مسجيا علي برش في قطيته وهو يتألم ودماء تسيل من تحته .. ففزعت، عندها جاءت الوالدة وهي تحمل شوربة وبعض الطعام إلي دينج .. وهي تبتسم بينما دينج يتألم وأنا محتار فأزالت حيرتي وبدلت فزعي بالفرحة حينما علمت أن دينج قد أسلم ووافق أن يتم ختانه وأن إسمه الجديد محمد بدلا من دينج ..عجبا قد أسلم دينج دونما مجهود فوالدي أميا يحفظ من القرآن ما يكفيه لأداء صلاته وكذلك الوالدة . أسلم دينج دونما وعظ أو خطابة .. أسلم دينج لأنه أراد أن يتخلق بأخلاق من عاشرهم بداية من أسرتنا التي أصبح جزءا منها وجيراننا وأهل الحي وطيبة عشرتهم ..
غستمر دينج ينزق فحملناه على ظهر حمارنا إلى المستشفى . فوجد الإهتمام ..بل كان موضوع خطبة الجمعة .. حيث اكتظ العنبر بجميع المصلين وانعموا عليه بالقروش منهم من يدفع شلنق ومنهم من يدفع خيرية ومنهم من يدفع تعريفة .. ودينج يدهش بالبكاء تعبيرا عن شكره لهم ..
هطلت الأمطار ودار الرشاش فحزم دينج بعد أن جمع غلته وحقق هدفه بشراء الثور وانهالت عليه الهدايا من أهل الحي من كساوي ومصاريف ..
حينما ودعناه جري خلفه أصغر إخوتي حينها ( الزين) وهو يبكي .. وقف دينج أو محمد ووضع كفه علي خده وقال بحزن عميق " دين ..بوت أنا بجي ) يعني يا الزين إنت أقعد أنا سأعود لكم ..
غاب دينج مننا للأبد ولا ندري أين هو حتي اليوم فلم يعد ربما جرفه تيار التمرد وكان أحد الضحايا..
لكم الود
شـــــــــــــطة