من المتفق عليه أن ما دفع العلماء لاكتشاف القارة السمراء، هي أطلال حضارتها القديمة، لا سيما وادي النيل مصر والسودان، كانت وما زالت مدافن الملوك القدماء (الأهرام) هي أول الدوافع لزيادة القطرين، وعلى وجه الدقة عرف السودان من خلال آثار الحضارة الكوشية ويظهر ذلك عندما وصفه الإغريق منذ القرن الخامس قبل الميلاد أمثال هيرودوت أبو التاريخ واسترابو، ومن قبلهم وصفته رحلات المصريين القدماء أمثال وني وخرخوف الذين كانت رحلاتهم ترتاد وادي النيل الجنوبي بغرض جلب الأبنوس والعاج وسن الفيل منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، وقد وصفوا بلاد السودان قديماً بعدد من الأسماء منها على سبيل المثال تاستي ونحسو وكوش في ذكرهم لقبائل أو مناطق تمر بها رحلاتهم التجارية – السياحية عبر النيل.
واحده من أكثر هذه الجواذب هي الأهرامات الكوشية بالبجراوية – التي شيدها المرويين لدفن موتاهم من الملوك والملكات وهي عبارة عن مدفن يتكون من شاهد أعلى هرمي الشكل بني من بلكات الحجر الرملي النوبي التي جلبها المعماري المروي من جبال الترابيل التي تقع شرق الأهرامات، وأخرج هذا الشاهد الهرمي وفق طراز معماري محلي يختلف عن الأهرام الفرعونية في وحدات الدفن الداخلية والخارجية، بأن الدفن في أهرام يكون بداخل الهرم وفي السودان يكون الدفن في غرف داخلية أسفل الهرم، وما الهرم الا شاهد على وجود المدفن، وشيد المرويين هذا الشاهد الهرمي على سطح الأرض في وضع يتعامد رأسياً مع غرفة دفن الملك وربطوه بشروق ومغيب الشمس وتعامده مع بعض النجوم، على شكل مثلث الشكل متسع في القاعدة بعدد كثير من البلكات الحجرية ويتناقص عددها صاعداً إلي أن تصل بلكة حجرية واحده وتعطي شكل الهرم، وأكمل الفنان المروي هذا الطراز المعماري بغرفة تسمى (المقصورة الجنائزية) وتعتبر كتب مفتوح للتعرف على صاحب الهرم، حيث نقشت على جدرانها الأربع رسومات لصاحب اهرم والموكب الجنائزي عل قارب ينقل المتوفى من مدينة لأحياء (المدينة السكنية) إلي مدينة الأموات، ومن حوله عدد من الكهنة والأسرة المالكة وتتقدم الموكب رسومات لمعبود النيل (حابي) يلبس تاج يزينة نبات البردي، هذا ويظهر على الجدران أخرى مشاهد مختلفة ومدهشه منها مشهد يحكي عن لحظة تسليم السلطة لي ولي عهد الملك المتوفى مع العديد من الكتابات باللغة المروية السودانية القديمة مأخوذة من كتاب الموتى وأحد المشاهد التي تحكي عن لحظة الحساب والذي يظهر فيه المتوفى أمام معبودي الحساب والميزان وعدد من رسومات تعبر عن البيئة القديمة وما يحيط بالمشهد المعبر عن الحياة الأخرى.
هذا عن الشكل الخارجي للهرم، أما الطراز المعماري الداخلي لجسم الهرم فهو ليست بالخارج، وما هو بالخارج شكل هرمي ومقصورة جنائزية ما هو الا شاهد قبر، أما المدفن الملكي فهو الأكثر غرابة مبني في الصخر معقد التركيب ومركب الغرف والممرات، يدل على قوة هذه الحضارة المروية وعظمة وجبروت ملوكها وتطور معمارها وفنونها ومدى اعتقادهم بأن هناك حياة أخرى.
شيد المرويين مدافن ملوكهم الرائعة على قمة جبلية وكان اختيار المكان يتوافق مع الزمان، مما جعلها شامخة أعطت المنطقة لوحة فريدة المنظر جذبت كل من مر بالنيل الأوسط منذ الأزمان الغابرة، كان أولهم جيمس بروس في العام 1772م عند عودته من رحلته لاكتشاف منابع النيل الأزرق، وما ذكره عنها جذب العديد من الرحالة أمثال كايو وبوركهاردت ومن حذا حزوهم في القرن التاسع عشر، وبعض المخربين واللصوص أمثال فرليني الذي نهب هرم الملكة أماني شخيتو في العام 1834م وحمل منها 17 بعير من الذهب الخالص، والذي يعرض حالياً في متحفي برلين وميونخ بألمانيا.
وكانت هذه الأعمال دوافع لبذوغ علم الآثار في السودان، حيث أجيريت تنقيبات أثرية في أهرام البجراوية من رايزنر ودونهام وألفوا منها ما يسمى مجلدات (RCK) المدافن الملكية الكوشية التي تعتبر أقوى ذخيرة علمية عن مملكة مروي التي اتخذت البجراوية عاصمة لها بعد انتقالها من جبل البركل وأسفرت حفريات رايزنر أنها ثلاث جبانات تم الدفن فيها منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي، الجنوبية منها تحوي 9 أهرام شامخة مع عدد من المدافن الأولية دفن فيها أوائل ملوك مروي أمثال آركاكاماني وجبانة شمالية تحوي 56 هرماً دفن فيها ملوك وملكات مروي من أشهرهم الكنداكة شنكدخيتو صاحبة الهرم ذو المقصورتين الجنائزتين والذي يحوي طراز معماري فريد مذج بعض ملامح الحضارة مع طراز الحضارة السودانية من رسومات وهناك هرم الملك أرقامني صاحب أول ثورة وطنية في السودان، الذي ثار على الكهنة وأبطل عادة القتل الطقسي وهرمي الزوجين الملكين نتكامني وأماني توري الذي شهدت الحضارة المروية في عهدهم درجة عالية من التطور والتوسع والمعمار وبسط السيطرة، ووضعوا هرميهن في صورة تجعل بقية الأهرام في وسطهم مكونة شكل حدوة، وتعتبر هي الحالة الوحيدة التي تفارقا فيها نتكامني وأماني توري.
استعان رايزنر بالاختلاف الطبوغرافي ما بين أماكن تشييد الأهرامات للتعرف على التسلسل الزمني، بفرضية أن أقدم الملوك زمنياً يختار أعلى الأماكن في الهضبة الجبلية ومن بعده على هذا المنوال يأتي تراتب طبوغرافي كان متوافق مع التسلسل الزمني لعهد الملوك.
تكتمل صورة هذه الأهرامات بالجبانة الغربية التي تقع غرب خط التحدي الخرطوم – عطبرة وحوت حوالي 450 مدفن بعضهم أهرامات لأمراء غير متوجين والبعض الآخر لنبلاء وكهنة الدولة المروية.
كانت وما زالت هذه الأهرام تستهوي كل عابري ومحبي المعرفة بجذور الثقافة الإنسانية والسواح، حيث جذبت الباحث هنكل الذي عمل على ترميم ومعالجة العديد من الأهرامات، حيث استعان بالزاوية المعمارية للفنان المروي التي وجدها مرسومة على أحد الأهرام، والتي تتحدث عن هذه الأهرام بنيت عن طريق أعمده خشبيه ثلاثة وعمود آخر أعلاه ويمتد طرفه الطويل حتى الأرض لتوضع عليه البلكة الحجرية وعند طريق ضغط الطرف المرفوع على تلك الأعمدة الثلاث وبالتوازن يمكن رفع البلكة ووضعها في المكان المراد وضعها عليه، وذلك نسبة لضخامة البلكات وأن الفنان المروي قد شيد هذه الأهرامات بدون رابط (مونة) ما بين البلكات، وانما عن طريق الكبس الهوائي والزاوية العريضة في القاعدة والمتدرجة إلي أعلى صمدت هذه الأهرام مقاومة عوامل الطبيعة لألفي عام مضت.
وقد اندهش دارسي هذه الأهرام بما بداخلها من غرف الدفن المبنية في الصخر ومبلطة بسراميك على جدرانها الداخلية، سراميك زاهي الألوان ومكسو برسومات تتحدث عن الحياة المروية واستعدادهم للحياة الأخرى، وهي غرفة مربوطة بممرات على شكل سلالم متدرجة وضع فيها الأثاث الجنائزي من جرار فخارية ولوحات حجرية وكتابات وتماثيل وزينة وأسلحة وكل ما يحتاجه الملك من معينات معيشية، آخرها التابوت الحجري الذي صنع من صخر واحد مكسو بالرسومات والألوان ، ومن المفترض أن تكون بداخله مومياء الملك، لكن لم يتم العثور عليها.
وتشهد على مدى جاذبية هذه الأهرام أفواج السواح التي ترتاد منطقة البجراوية على طول السنة، واجتهادات الهيئة العامة للآثار والجامعات السودانية على رعايتها وزيارتها والترويج لها والمحافظة عليها، وكان آخرها هو ما قامت به تلك الجهات مع منظمة اليونسكو في ضمها للتراث العالمي في العام 2011م، مع هذا تسعى لإقامة مشروع لترميمها ترعاه الدولة الشقيقة قطر.