(6)
بعد «44» عاماً على رحيل الزعيم الأزهري فإنه لا يزال في الذاكرة والوجدان ولا تزال وقائع موته الفاجع وملابسات معاملته الفظة والحادة من جانب سلطة «25 مايو 1969م» تمثل أسوأ نوع من المسلك لرجل حياته من تاريخنا الذي به نُفاخر ،فكيف بمسلك يفضي إلى الموت!!. لقد أحاطوا منزله العريق في أم درمان بالمدرعات،كما لو كانوا يستعدون لخوض معركة عسكرية ضد قيادة وطنية فذة ،قاومت الاستعمار ببسالة وجرأة وظلت صلبة في المواقف والمبادئ حتى تحقق الاستقلال في أول يناير 1956م، وظل متمسكاً بالقيم السودانية والتسامح والتواصل والتواضع، ومصلحة الوطن وسلامته وحريته ووحدته غير قابلة للمزايدة ولا المساومة، ومنحته الجماهير احترامها وثقتها وعرفانها، وأمسكت بخيط رحيله الفاجع الفادح، فبعد إحاطة منزله بالدبابات ومنع خروجه أو دخوله، واستكثروا عليه البقاء مع أسرته، فنقلوه إلى سجن كوبر.وفي يوم «19» أغسطس أبلغوه بوفاة شقيقه علي الأزهري وسمحوا له بتشييع شقيقه .وبعد العودة من التشييع الكثيف عاد لمنزله لتلقي العزاء، وبفعل الإجهاد البالغ وضيق التنفس استدعى الدكتور صديق أحمد إسماعيل الذي طلب نقله للقسم الجنوبي بمستشفى الخرطوم حيث وضع في خيمة الأوكسجين وظل الأطباء يتناوبون على رعايته، وكانت هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها لنوبة قلبية وطلبت أسرته نقله إلى القاهرة أو لندن، فأُبلغت أن مسئولاً كبيراً ليس اللواء جعفر نميري طلب أن يعامل كغيره من المرضى في المستشفى، وكانت حالته تتأرجح بين
التحسن والتراجع ...وفي عصر الثلاثاء «27 أغسطس 1969م» حدثت نوبة، ونفدت أنبوبة الأكسجين وأحضرت أخرى واتضح أنها فارغة وبذل الأطباء جهودهم،
ورفع الأزهري أصبعه دلالة على أنه يتلو الشهادة وعندما أكملها استرخت يده وملامحه وخمد نفسه وأغمض عينيه،أطلقت المستشفى من كل الحجرات والعنابر والشرفات «صرخة مدوية تردد صداها إلى أبعد مدى كانت «صرخة هائلة» بحجم الفاجعة والرحيل، عرفت العاصمة في كل أحيائها أن الأزهري مات، وانطلق الخبر الداوي وانتشر لكل بقاع السودان، ووقتها في ذلك الوقت الكئيب كانت الدولة وأجهزة الإعلام تحظر التداول حول أية معلومة عن الأزهري، كانت معاملة الدولة له في ذروة الظلم واللؤم ، ولكن الجماهير وحدها استطاعت أن تكبح صلف وغلظة السلطة والاندفاع المنهمر من البيوت والأحياء والمدن وبوسائل النقل المتاحة نحو أم درمان. تحول السودان إلى مأتم حزن بلا حدود، حدث كل ذلك والدولة لم تكلف نفسها ولا الإذاعة ببث خبر أو بيان عن وفاته،كانت دولة الانقلاب في ذروة قلقها واضطرابها وحشود الحزانى والغاضبين والكاظمين الغيظ والغضب تتدفق من كل صوب واتجاه، وتحولت الوفاة إلى قضية أمنية، والتقارير تتحدث عن الحراك الشعبي للحاق بالتشييع، وفي نشرة أخبار الوفيات في الثامنة مساء الثلاثاء 27/8/1969 أذيع خبر وفاته وسط الأخبار "توفى إسماعيل الأزهري المعلم السابق".
سدت الشعوب السودانية الأفق عند تشييع جثمانه ، حتى ارتعب الانقلابيون . كشف التاريخ وفاء أبناء وبنات شعبنا وهم يبكون بقلوب منفطرة رحيل جبل صادم الاستعمار في قوة بأسه وجلال جبرته . وكشفت أن محبة الشعوب أصدق من قوة السلطة المسروقة بليل .
(7)
من السيرة :
في 27/3/ 1945 م توحد الاتحاديون الثلاثة ، ووقع على الميثاق السادة : إسماعيل الأزهري ويحي الفضلي ومحمود الفضلي ومحمد نور الدين وأحمد محمد يس عن " الأشقاء " . كما وقع كل من السادة : عبد الله ميرغني وخضر حمد وإبراهيم يوسف وحسن أحمد عثمان وعبد الرحيم وشي عن "الاتحاديين" . والسادة أحمد محمد علي السنجاوي ومحي الدين البرير والطيب محمد خير وعبد الرحيم شداد وأحمد عوض عن " الأحرار " .
كان السيد عبد الله الفاضل قد رشح نفسه في الدائرة الشمالية ضد السيد إسماعيل الأزهري وفاز الزهري. وأجريت عملية الانتخابات وعندها نجح الاتحاديون في الانتخابات الأولى .وفي 5 يناير 1954 اجتمع مجلس النواب ورشح السيد إسماعيل الأزهري الأستاذ بابكر عوض الله لرئاسة المجلس وثناه الأستاذ " محمد أحمد محجوب " ، فاختير بالتزكية لأنه لم تكن هناك ترشيحات أخرى .في جلسة 6 يناير 1954 وبعد الاجراءات الخاصة بحلف اليمين للنواب ، تقدم السيد ميرغني حمزة مقترحاً انتخاب السيد إسماعيل الأزهري رئيساً للوزراء وثناه السيد بلن ألير . ومن الجانب الثاني اقترح السيد الصديق المهدي أن ينتخب السيد " محمد أحمد محجوب " رئيساً للوزراء ، وثناه السيد بوث ديو . ونال السيد إسماعيل الأزهري 56 صوتاً والسيد محمد أحمد محجوب 37 صوتاً. وتكونت الحكومة . استطاع الأزهري أن يعالج المزالق العديدة في حكمة ولما ألحّ على " خضر حمد " لدخول الوزارة الذي اقتنع بعد شد وجذب .
(
إسماعيل بن سيد أحمد بن إسماعيل بن أحمد الأزهري بن الشيخ إسماعيل الولي (1901-1969م). ينتهي نسبه بالشيخ إسماعيل الولي بن عبد الله، الكردفاني نزحت أسرة والده "عبد الله" من قرية "منصوركتي "بمنطقة الدبة في الشمالية لمدينة الأبيض حاضرة كردفان. ولإسماعيل الأزهري صلة قرابة بمصطفى البكري بن الشيخ إسماعيل أول من دفن بمقابر البكري بأم درمان و بمحمد المكي أحد رجال الحركة الصوفية بالسودان أول من سكن حي المكي ببيت المال بأم درمان، وبالشيخ البدوي صاحب القبة المشهورة في حي العباسية بأم درمان. ولد في بيت علم ودين، تعهده جده لأبيه إسماعيل الأزهري الكبير بن أحمد الأزهري. ميلاده من بعد ثلاثة سنوات من المعركة التي لما يزل الإنجليز في رعب من سيرتها .هذه الأرض لم يزل الرعب والخوف يعشش في أذهان المستعمرين ، فما أن يسمعوا بأن أحدهم بدأ يقرأ " راتب المهدي " إلا وجيء به للسوق للإعدام أمام الملأ . بهذا الميراث التاريخي الغليظ وُلد " إسماعيل الأزهري ".
تلقى تعليمه الأوسط بواد مدني، كان نابهاً متفوقاً، التحق بكلية غردون عام 1917م ولم يكمل تعليمه بها. عمل بالتدريس في مدرسة عطبرة الوسطي وأم درمان، ثم ابتعث للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت وعاد منها عام 1930م. عين بكلية غردون وأسس بها جمعية الآداب والمناظرة.و عندما تكون مؤتمر الخريجين أنتخب أميناً عاماً له في 1937 م. . تنضرت سيرته عند الإنجليز ، فكان صنواً لهم، له الأرضية الثقافية التي يستند عليها المستعمر . فراعهم أن يكون لهم نداً. شغل منصب رئيس وزراء السودان في الفترة 1954 - 1956 م ورئيس مجلس السيادة في الفترة 1965 - 1969 م .
(9)
لم ينتقص من شأن الأزهري إلا ثلة من انتهازيي الحكم وخاطفيه بليل ، حين عاملوه بالغلظة وهو في نوبة قلبية . قال قائلهم "لِمَ يعامل معاملة خاصة" !. حرموه العافية المباحة ، حين أمدوه بكمامة لرئتيه فارغة من الأوكسجين . وسكت القلب النابض بالحياة . ما أكرمه من عَلمٍ وطني رفرف ولما يزل يرفرف عالياً رغم السنين . اختلف معه الكثيرون ولكنهم يعرفون علمه وقدرته وأيقونة القيادة مختومة في جبينه .
قبل رحيله وخلال محبسه بكوبر لمدة ثلاثة أشهر ، كان " بابكر عوض الله " نائباً لرئيس مجلس قيادة انقلاب مايو ! . هل يا تُرى مرّ طيف الذكريات به عندما رشحه الأزهري في الخامس من يناير 1954 ليكون رئيساً لأول برلمان سوداني ؟!
كان قبل أن يتمدد في فراشه من تعب ملاحقة العمل العام ، يدون مذكراته كل يوم . عمل عليها صديقنا الراحل ابنه " محمد الأزهري " الذي نرتاب في أنه ربما اغتالته أيادٍ حاذقة ، أكثر ستراً من التي اغتالت والده . استجمع " محمد الأزهري " جُل المذكرات وأعاد تحريرها لتكون بذرة كتابٍ ضخم عن مسيرة الحياة والتاريخ ، ولكن سجادة العُمر انطوت ، وما تيسر لنا أن نرى تلك المذكرات الندية بالتاريخ .
...................................................................................