معبد الملك (أمان خريكريم) هل يعيد صياغة التاريخ
بله علي عمر
* عندما يتطرَّق الحديث للحضارات القديمة تبرز الحضارة النوبية القديمة وآثارها الممتدة من فرس شمالاً حتى حدود سنار الجنوبية، وإذا كان علم المصريات قد أكد أن الحضارة المصرية القديمة بشواهدها الماثلة في ابو سنبل واهرامات الجيزة وسقارة، فإن شواهد الاكتشافات الأثرية القديمة في جنوب الوادي تذهب إلى أن حضارة النوبة ضاربة في أعماق التاريخ بصورة تكاد تحدث إنقلاباً في الفهم الذي كان سائداً وهو أن الحضارة الفرعونية كانت ام الحضارات.
يوم الخميس الماضي قمنا بزيارة لأحدث إكتشاف أثري وهو معبد الملك (امان خريكريم) بمنطقة الحصا على بعد (45) كيلو متراً من شندي.. نحو الشمال.. وبالموقع الأثري التقينا مسيو قنست روندو رئيس بعثة الآثار الفرنسية. وكان مدخلنا للحديث عن بدايات الاكتشاف فقال: (تم التوصل لهذا الاكتشاف بعد الوقوف على أوراق الرحالة السويسري بريكهارت الذي مرَّ بالسودان في طريقه من النوبة المصرية ووصل إلى منطقة شندي وقبيل وصوله إلى شندي شعر أن المنطقة مليئة بلصوص الطرق فعمد إلى غابة بجوار النيل ليخفي فيها بعيره وليقضي مساوئه بها، فحازت على اهتمامه بعض الآثار القديمة حيث وضع ملاحظة على مدونته بعد أن سأل عن اسم القرية المجاورة لتلك الآثار وهي (الحصا إلى الشمال من شندي) ليصل إلى شندي ومنها قفل راجعاً نحو بربر إلى سواكن التي توفي بها قبل وصوله إلى الأراضي المقدسة التي أرادها وجهة ثانية لرحلته خاصة بعد أن وقف من الأهالي بمنطقة النوبة على العداء السافر للأوربيين بسبب تجارة الرقيق التي كانت سائدة في ذلك الوقت ورغم أن ريكهارت كان يقدِّم نفسه للأهالي كحاج أفغاني قدم من كابول، بيد أنه لم يطمئن لنظرة السكان فآثر العودة.
* قلت لمسيو روندو إذاً فإن معلومات ريكهارت كانت مؤشراً للإكتشاف؟
* نعم.. فقد ذكر (ريكهارت) في مدونته أنه قام بإخفاء بعيره من لصوص الطرق في غابة من أشجار الاكاشيا تقع شمال قرية الحصا وهي ضمن قرى (ديم القراي) (25) كيلو متراً للشمال من شندي وأنه لاحظ داخل الغابة آثار معبد قال إنه ربما يعود للحضارة المصرية القديمة.
* وكيف جاء اهتمام البعثة الفرنسية بالأمر؟
* لقد تتبعت البعثة الفرنسية خط سير (بريكهارت) وتم تحديد الموقع وأكدت الشواهد وجود آثار عمرانية تتمثل في عينات من الطوب الأحمر والخزف مما يشير لوجود مستوطنة بالمنطقة وبإجراء عمليات حفر أولية تم التوصل لاكتشاف معبد قديم عرفنا بعد ذلك انه يعود لملك نوبي قديم عاش في حقبة اتسمت بشح المعلومات، وقد عاش ذلك الملك في القرن الميلادي الأول اما اسمه فهو (امان خري كريم).
* ما هي مدلولات هذا الاكتشاف: هكذا سألت مسيو روندو؟
* في أعقاب الحفريات الأولية وجدنا أننا أمام ما يمكن تسميته بالمستوطنة الملكية والدليل على ذلك وجود معبد الإله (رع) والذي نحن بصدد الكشف عنه، وهذا ربما أحدث تبايناً في استنتاجنا الأولي لحقبة ذلك الملك فربما اكتشفنا لاحقاً أن المستوطنة تعود لما قبل القرن الأول الميلادي.
* نريد الوقوف على مؤشرات تاريخ بناء المعبد؟
* ما يمكن تأكيده أن لهذا المعبد علاقة بالملك (امان خري كريم) ربما يكون هو الذي أنشأه أو هو من قام باكمال بنائه وأشرف على ديكوراته.
* ما هي أهم مميزات الموقع؟
* هنالك حقيقة ماثلة وقفنا عليها أن المعبد قد بني وفق مواصفة ارتفاع معينة لسطح الأرض بحيث لا تصلها مياه النيل، على الرغم من أن المعبد لا يبعد عن مجرى النهر إلا (20) متراً فقط، وقد أسهم قرب المعبد من النيل في توفير البيئة المثلى لتشييد المعبد وحمايته.
* كيف تقيِّمون ما استخدمه بناة المعبد؟
* لقد استخدم بناة المعبد نوعاً من الطوب الأحمر بطول قدم وعرض (50) سم، وقد جاء التشييد وفق نظام وتصميم مسبق لأشكال الفتحات والأعمدة، وينسب لنهج معماري متقدم دليلاً على أن ذلك المجتمع بلغ من التنظيم الحضاري والرقي شأواً بعيداً.. إن الطوب الأحمر المستعمل وطريقة البناء التي تم بها المعبد ونوع الخارطة المستعملة وهندسة توزيع الحجرات وفتحات المداخل والمخارج كلها تعتبر معلومات آثارية تاريخية تشير الى تقدم بليغ في فن العمارة.
* من خلال قراءتكم للشواهد كيف ترون ذلك المجتمع؟
* إن طريقة بناء المعبد وفق نسق عالي التنظيم يوحي بتوفر ملكات وقدرات مهنية عالية غض النظر عن شح المعلومات للفترة التي شيِّد فيها المعبد وحقبة ذلك الملك (امان خريكريم)، ولكن الاكتشاف يدل على أنه إضافة ثرة وغزيرة لمعلوماتنا عن الفترة المروية، كما انه يشكل اضافة ثرة للمعلومات المتوفرة عن الوضع المعماري في دولة مروي القديمة وطريقتها في بناء المعابد.
* ماذا عن الجانب الروحي والديني من خلال هذا الأثر؟
* المسألة الدينية دائماً حاضرة في التاريخ النوبي القديم فقبل أكثر من (400) سنة قبل الميلاد كانت منطقة جبل البركل تمثل المركز الديني ثم انتقل المركز إلى منطقة البجراوية وكانت دلائل الانتقال إلى البجراوية تشير إلى أنها حدثت في العام ثلاثمائة قبل الميلاد، ويعتبر ذلك بداية التاريخ المروي، حيث أضيفت (النقعة) و(المصورات) كمراكز دينية، بالإضافة للاكتشاف الأخير لمعبد الملك (امان خريكريم) وهو للإله (آمون).
إننا ننظر للمسألة الدينية من خلال إقامة المعابد للآلهة، فمثلاً الإله (آمون) كان معروفاً في مصر القديمة وانتشر حتى السودان بدولة مروي.
* هل هناك آثار سودانية خالصة؟
* نعم، هنالك ما يسمى بالإله (انارماك) وهو سوداني، وتشييد معبد للإله آمون من الحصا فيه معلومات ثرة، إذا تم التركيز على نهج إقامة المعابد وتوزيع الآلهة وانتشارها.
* وماذا عن المعلومات التي وقفتم عليها حتى الآن؟
* تتبع أسلوب التنقيب وهو يعطي اضاءات قوية.. نتوقع أن نجد حائطاً مطموراً في مكان ما من المعبد ووفقاً لتقديراتنا نقوم بأعمال الحفريات.. يصادف أن نعثر على أساسات بها معلومات ثرة وقد لا نحصل.
* هل تعتقد أن المعبد تعرَّض للنهب؟
* لقد تعرض المعبد لعمليات نهب.. فالطوب ممتاز أغرى الأهالي بنهبه.. وقد امتدت عمليات النهب حتى أساسات المعبد إذ اختفت حوائط كاملة بأساساتها.. إن الأهالي هنا يقومون بالتنقيب عن الطوب الأحمر.. إن ما حفظته الرمال مطمور لا يتجاوز ارتفاعه (40) سم من سطح الأرض، وكشفت الحفريات أن الأساس ممتد حتى (120) سم تحت سطح الأرض، مما يشير إلى وجود تفاوت في حقبة تشييد المعبد.
* حدثنا عن كيفية تشييد المعبد؟
* بني المعبد باستخدام الطوب الأحمر وهنالك (6) أعمدة تمتد من الحجرة الثانية وقد شيِّدت هذه الأعمدة من الحجر الرملي تناثرت قطعها داخل المعبد وقد وجدنا كميات هائلة من الخزف ضمنها عينات من الخزف المروي المصقول قليل السُمك، وهي تشبه الجبنة السودانية الشهيرة، كذلك وجدنا ما نسميه بالخزف النيلي إشارة للمنطقة النيلية وهو نوع من الخزف غير المصقول.
* قلت للمسيو راندو *وأنا ألملم أوراقي* كان للفرنسيين القدح المعلى في الكشف عن الآثار المصرية، فهل هو إحساس بالظلم تجاه السودان الذي دفعكم للمجيء للبحث والتنقيب عن الحضارة السودانية وآثارها؟
* فأجابني ضاحكاً (الحضارة المصرية كانت تحتاج فك لرموزها وكلمة مصر واردة في الكتاب المقدس واسفار العهد القديم، أما الحديث عن حضارة السودان فإن دليل اهتمامنا بها هو وجودنا هنا ننقب ونجمع المعلومات، وسوف نواصل ذلك التوجه بدءاً بهذا المعبد الذي سوف نعلن عنه متى اكتملت المعلومات الخاصة به.
من المحرر:
* أولاً لا بد أن أشيد بحفاوة الاستقبال التي وجدناها من أعضاء البعثة الفرنسية بالموقع.. خاصة مسيو راندو الذي جلس إلينا رغم ارتباطه برحلة إلى الخرطوم، كما أنني أشكر الأستاذ عمر الأمين الذي رافقته في الرحلة وكان له القدح المعلى في نجاح مهمتي بل إمتدت مساهمته للمشاركة في الحوار والصياغة.
صحيفة الصحافة العدد رقم: 5297