لم يعش ود الفراش بعد ذلك طويلاً فبحلول العام 1883 فاجأته حمى الملاريا وكانت شديدة الوطأة فأودت بحياته وهو في عامه السادس والثلاثين، وهكذا انفصل الجمر عن صندل الشعر، وأشاع ذلك حزناً عميقاً في قلوب زملائه ورؤسائه وأهله وأهل بربر جميعاً فحملوه إلى مثواه الأخير بمقبرة الشيخ الحباني وهو عالم مصري مقبور في مدينة بربر القديمة ويقع قبره على ربوة على شرق قبة الولي الشيخ زين العابدين الكنتي.
ترك لنا شاعرنا الرائد إبراهيم ود الفراش عليه الرحمة إرثاً شعرياً نهل من إبتكاره وابتداعه الذاتي وقد حفظ لنا هذا الإرث حفيده الأستاذ محمد علي الفراش وذلك في كتابه ديوان الفراش شاعر بربر وبذلك قدم خدمة عظيمة لدارسي الأدب الشعبي في السودان وهذا المرجع الرصين سيعيننا كثيراً عندما نتصدى حالاً لفن الفراش الشعري.
(تأثر شاعرنا ود الفراش بوالدته السيدة (محبوبة) فقد كانت إمرأة شاعرة فصيحة اللسان هذا غير ما كان يمتاحه من الأوائل من شعراء الدوبيت و شعراء عصره الذين كانت تجمعه بهم صلات فقد صادق الشاعرين الحاردلو وأخاه عبد الله كما تأثر بالشاعر علي ود محلق عاشق تاجوج و جاراه في بعض المعاني. ولعل ما أكسب شعر ود الفراش فرادة وتميز هو إطلاق النفس على السجية وعدم التكلف في اللفظ ودقة الوصف وجزالة المعنى وقوة الأسلوب وتماسك البيت وابتكاراته الذاتية).
جاء معظم شعره في البحر الذي تعارف أهل البطانة على تسميته بالبحر القصير وقد أجاد فيه إجادة واضحة وله في هذا الوزن سمتان الأولى هي (الإقعاد) والإقعاد هو أن تبنى بعض أبيات قصيدة على عروض وبعضها الآخر على عروض أخرى، لاحظ الشطرة الأولى في مربعه القائل:
بُورِيك فَنُّو
الخيلْ والزَمِلْ ما بِلحَقَنُّو
يَمَحِقْ في الدَرِبْ حَالاتُو جَنُّو
شيوم ناس حَاجَّة في الحُمْران كَلَنُّو
فقد جاءت على غير عروض باقي الشطرات وقديماً قال الخليل بن أحمد إذا كان بيت من الشعر فيه زحاف قيل له مُقْعَدٌ؛ والمُقْعَدُ من الشعر: ما نَقَصَتْ من عَرُوضِه قُوَّة، غير أن ود الفراش عندما لجأ للإقعاد كثيراً في شعره لم نشعر بالضعف يعتري مربعاته الشعرية ودعونا ننظر إليه في هذين النموذجين:
قَامْ بَيَّ نَشَّ
على خُشَّه وخَشوشْ نَاطِح لُو قَشَّه
طِرِيتْ البَيْ المِزَاحْ دَمَّاعَا بَشَّ
حِسَارْ النَعْنَعُوه وُرُوبْتُو خُشَّه
وقوله:
صَايِدْني غُلِّكْ
مِتِلْ فَصَّ العَقِيق مَنْظُومَه كُلِّكْ
مِتَين يا ديفَةْ الرَاتعاتْ أَظُلِّكْ
مِتِل تَبَر الغديرْ الكَابِّي ضُلِّكْ
هي نماذج تصدح كما الدفوف على الأكف الموهوبة وتنساب كاللحن من الحناجر المصقولة ما يقودنا للسمة الثانية في أوزان شعر ود الفراش وهي (الموسقة) فشعر ود الفراش يضج بالموسيقى وتكاد تتقافز فيه الحروف والكلمات وعموماً فإن الشعر العربي شعر غنائي قائم على أصول موسيقية مضبوطة ضبطا محكما ، وقيم صوتية متكاملة تكاملا تاما لم تتوافر لأي شعر بلغة أخرى.وقد كان الشعراء العرب يعلمون أسس الشعر وقواعده وأوزانه وقوافيه بالطبع والسليقة ، ولم يكونوا بحال يزنون التفعيلات أو يعدونها أو يساوون الأشطر ، بل كان ذلك طبعا وسليقة وفطرة متأصلة في نفوسهم كما هو حال لغتهم المعلومة لجميعهم بالفطرة دون دراسة ، وحتى دون وعي. وهذا الأمر ينطبق على شاعرنا ود الفراش الذي فلت كما فلت الحاردلو من الإضطراب الوزني الذي لازم الدوبيت في نشأته الأولى وصحبه بعد ذلك كثيراً إذ كانت القافية هي المسيطرة على هذا الفن القولي دون الوزن والموسيقي ولكن لا بد للشعر من موسيقى لأن الموسيقى من أبرز علامات الشعر ، وهي التي تميزه عن الكلام المعتاد ، وعن غيره من الفنون الأدبية ، ولها أثر كبير في تنسيق البناء العام للنص الشعري والشاهد أن ود الفراش قد أعمل موسيقي داخلية وأخرى خارجية في شعره شأنه في ذلك شأن كل الشعراء المبدعين وموسيقاه الداخلية هي موسيقى واضحة تدرك للوهلة الأولى وقد قامت هذه الموسيقى على إختيار شاعرنا لألفاظه وتفاعل الألفاظ مع بعضها وإهماله حدوث التنافر فاتسقت صوره الفنية في مربعاته الشعرية ولم يكن ذلك وليداً للصدفة إنما يرجع إلى ملكة الشاعر السالكة في النضج وإستغراقه في تجربته الشعورية وصدقه الفني وتمكنه من أدواته الشعرية ونسجه لموسيقى خارجية تناسب مقاصده الشعرية وهي الموسيقى المعتمدة على الوزن والقافية والتي أعملها هي الأخرى بتناسب بديع.
ولشاعرنا ود الفراش ابتكارات ذاتية أربع حتماً ستقوده للخلود وسنتعرض لها تباعاً وأولها غريب المعاني التي لم يسبقه إليها شاعر شعبي، وثانيها إبتداره للمسادير بمصطلحها الشعبي الأدبي، وثالثها إبتكاره نظم رباعيات تنتهي الشطرة الرابعة منها بلغة البجة التي كان يجيدها،ورابعها توظيفه للأمثلة وابتكارها.
عن غريب المعاني غير المسبوقة في شعره وصفه للخدود بثمار العناب ووصفه للشلخ بالشباك المحكر في قصر والخدود السمراء بكبد الحملان وفي هذا يقول:
أُمَّاتَك عُزَاز دايماً يَصَلَّنْ
ما شِرْبَنْ خُمُرْ زِِّيعة بَلَّنْ
جَنِيبَةْ مُوس بِ المِزِيقْتُو رَتَّنْ
بَرَاطم الدُون تَقُول كَبْدَةْ حَمَلَّنْ
ومن معانيه غير المسبوقة أدخاله أوصافاً جديدة في شعر البطانة أخذها الشعراء منه وهو واضح التأثير في غير شاعر كوصفه لسرعة أقدام جمله بمكينة الخياطة. يقول:
عَتُود الدَقْدَقْ المِنْ قَامْ نَشَيِّطْ
عَصَاقِيلاً تَخَلِّي الكُورْ يَعَيِّطْ
تَقَوْلِبْ إيدَيكْ تَقُولْ مَكَنَةْ مَخَيِّطْ
بَلا سِتْ ريدي ما اظُنَّكْ تَبَيِّتْ
ثاني إبتكارات شاعرنا أنه أول من أنشأ المسدار بمعناه الشعبي الأدبي وهو القصيدة التي تحكي عن رحلة الحب من نقطة إنطلاق الشاعر بمطيته إلى ديار المحبوبة ولم يجد الباحثون شاعراً أنشأ مسداراً قبله، له مسداران أحدهما من بربر إلى سواكن والثاني من بربر إلى أنقواتيري. يمكن الرجوع إليهما كاملين في ديوانه. وثالث إبتكاراته التي أشرنا إليها وهي نظم رباعيات تنتهي الشطرة الرابعة منها بلغة البجة التي كان يجيدها وله في ذلك عدة نماذج نختار منها النموذج التالي:
بَقَيِّل كُلُّ يوم تحت السَرُوبَه
بَشُوف الجَاهله إنْ سِهْلَنْ دُرُوبَا
عَرَبْ عِتْبَاي صَحِيحْ نَاساً جَنُوبَه
يَا رَبْ أُونْ أتِيبْ بَرْبَرْ سَتُوبَا
أُونْ أتِيبْ بلغة البجة تعني: أنا ذا، و سَتُوبَا تعني: يصل إلى. ورابع إبتكاراته هي توظيفه للأمثلة وابتكارها في أشعاره وأدبياته فقد أوردنا له من قبل مربعه القائل:
لا تْجَالسَ الخديمْ ليهِنْ تَقَرِبْ
وتَبْقَالِنْ حَبيبْ للمالْ تَخَرِبْ
يِقِيدَنْ سِمْعَتَكْ فَدْ يَومْ تَغَرِبْ
ولا تسألْ طبيبْ أسألْ مِجَرِبْ
ومن أدبياته التي صارت مثلاً قال حينما جيئ بأحد الفقراء محكوماً عليه بالجلد وعرض بطنه بدلاً عن ظهره: (العِندُو ضهر ما بِنْضرب علي بطنو).
يقول محمد على الفراش إن شعر ود الفراش كان محصوراً في أقانيم خمسة لا يعدوها إلا لماماً وهي: رحلاته، جمله، محبوباته, الوصف، الإعتزاز بالنفس. ويضيف الأستاذ محمد علي الفراش ويقول: غير أن هذه الخمسة لم تكن تنعزل عن بعضها البعض فغزلياته كانت تختلط برحلاته وبالحديث عن مطاياه وبمغامراته وبمفاخره وبأحلامه وبنجوى نفسه وبما يتعرف إليه من أناس وما يستقبله من أحداث. ولعلنا واجدون فيما قاله الحفيد أن شاعرنا قد طرق أبواباً عديدة من من أبواب الشعر وهي: الغزل والنسيب والوصف والفخر والحماسة وشعر الإخوانيات بالإضافة إلى رائديته في فن المسدار والثلاثية الخالدة في شعر الدوبيت (المطايا والشاعر والحبائب) وقد أغفل الحفيد باب الهجاء الذي ولجه شاعرنا ود الفراش بوضوح وقوة وباب المدح رغم أن المحقق قد أورد في ديوان جده نموذجاً لمدح الشاعر للشيخ محمود أحد مشايخ قبيلة الضباينة.
رحم الله شاعرنا الرائد إبراهيم ود الفراش ونقول له في عليائه أننا فخورون بك كما كنت فخوراً بنفسك حينما كنت تقول:
أنا النَصِيبَه
وأنا اللسَدْ العَرَزْ جُوَّه الزَرِيبَه
أنا الكَوَّر رَصَدْ شَايِفْ ضَرِيبَه
وأنا المامونْ عَلىْ الجَاهْلَه وغَرِيبَه
وتقول:
أنا البَحَرْ الكبيرْ إنْ عَبَرَونِي
وأنا رَحلْ الكُحُلْ إنْ مَّيلونِي
أنا شوكْ الكِتِرْ إنْ جَرْجَرَونِي
وأنا الجِنْ البِخَلِّي الزَولْ يَنونِي ....